فى «الجُرن» الحديث
حينما ذهبتُ لحصاد غيطنا «العقيلي» الواقع على طريق قفط-القصير دارت بذهنى أجواء جُرن الفول القديم حيث كان العمال قديما يُكوّمون أعواد الفول اليابسة وقد حوَت قُرون الفول فى جُرن دائرى كبير عالٍ ثم يأتون «بالنورج» وهو أشبه بسيارة خشبية ثقيلة ذات عجلات حديدية مُدبَّبة قاطعة مثل السكاكين تدرس النباتات سيقانها وفروعها وأوراقها بما حوته من ثمار وتدور من خلال بقرتين تجرّانها بشكل دائرى على الجُرن دارسةً ما حوى، ويستمر هذا الدَراس أياما حسب كمية المحصول ثم يُكَوّم المدروس وينتظرون هبوب الهواء حتى يذروه «بالمِذراة» وهى آلة خشبية لها كفٌّ وأصابع مثل يد الإنسان يغمسها ويلقى ما علِق بها فى الهواء فينزل الحَبُّ رأسيا بينما يأخذ الهواءُ التبنَ (قش النبات دون الحَبّ) يأخذه بعيدا ليرسو على بِضعة أمتار من الحَبِّ وبذلك يفصلون بين البذور والتبن، كانت طقوسا جميلة، نلهو نحن الأطفال ونفرح بها فهى أسابيع الخير؛ حينما وصلتُ إلى الحقل والتفّ العمال حول آلة «الدَّرَّاسة» الحديثة التى تعمل بجرار زراعي، جمعَ العمالُ حِزَم الفول وألقوْا بها فى جوف الدراسة التى التهمت المحصول فى ساعتين فاصلةً بين التبن والحَب فى سرعة مدهشة، رحتُ أتأمّلها.. كيف لهذه الآلة أن تختصر الزمن؟ وأين النورج وأين الجُرن وأين المذراة وأين الزمن الجميل؟
العودة إلى الحبوب التقليدية
عاد مُلّاك الأراضى والمزارعون إلى زراعة الفول والعدس والأذرة والحلبة بعد أن هجروا زراعة هذه المحاصيل قبل سنوات ليحلَّ محلَّها قصبُ السكر ولكن مع زيادة أسعار هذه الحبوب وثبات سعر طن قصب السكر قَلّع المزارعون القصبَ وعادوا إلى محاصيل أكثر دخلا ماليا وأقلَّ زمنا، فدوْرة هذه المحاصيل لا تتجاوز ثلاثة أشهر فى حين يظل محصول قصب السكر عاما كاملا حتى يُكسَر ويُحَمل إلى مصنع السكر ومن جذوره ينبتُ مرات قد تصل إلى سبعة أعوام متتاليات مما أضعف محصوله وأنهك تُربته، ولم يعد مُجديا اقتصاديا وعلى القائمين على مصانع السكر التفكير فى أسباب عزوف المزارعين عن زراعة القصب وتعويضهم بما يشجعهم على زراعته بزيادة سعر الطن إلى ألفين من الجنيهات على الأقل وإعادة تشغيل قطارات رفع محصول القصب من الحقول للمصنع وصرف الأسمدة المدعومة بدلا من شرائها من السوق السوداء وهذا حديث له شجون فى يوميات أخرى.
التقاوى المتوارثة
كان أبى -رحمه الله تعالى- يُخرج زكاة الزروع أولا ثم يدّخر التقاوى وهى جزء من الحبوب يدخرونه للعام القادم حتى يرموه فى الحقل لينبت مرة أخرى ولكنى فوجئت بندرة الحصول على التقاوى المتوارثة منذ قدماء الفراعنة لتحِل محلها بذورٌ مُهجنة عقيمة تنبت مرة أخرى وإذا أرادوا استنباتها مرة أخرى لا تنبت.. أى لا تنبت إلا مرة واحدة، وهذا أمر خطير لأن البذور المصرية الأصيلة ستختفى رويدا رويدا وسيضطر المزارعون المصريون إلى شراء هذه الحبوب المهجّنة كل عام وتختفى البذور الأصلية المتوارثة وهذا أمر فى غاية الخطورة ويتطلب مناقشات علمية ومجتمعية محايدة تتوخى المصلحة العليا وليست المنافع الشخصية الضيقة، لقد وضع المصرى القديم حبوب الحنطة فى مقبرته حتى إذا ما صحا من نومته زرعها وعمَّر الأرض وأكل من قمحه المصرى وهذا ما لا نراه فى أية حضارة أخرى؛ فكيف للمصرى قبل سبعة آلاف سنة أو يزيد يحافظ على بذوره وحبوبه بينما نضيّعها نحن تهجينا وعُقما؟ ستضيع البذور المصرية وسنضطر لاستيرادها من الخارج بمليارات الدولارات إن وافقوا على تصديرها لنا.
دَرَس لغة واصطلاحا
تأملتُ العلاقة بين دَرَسَ دَرْسًا، أى تعلَم وما علاقتها بالفعل دَرَسَ فى آلة الدَراس «الدّرّاسة» فوجدت الأمر قريبا فآلة الدَراس تدرس الزروع وتجزئ الكل حتى تفصل بين البذور والتبن لينتفع الناس، وهذا ما يفعله الدرس العلمى الذى يجزئ المعلومات الكليات ليفهها الناس ويسهل عليهم إدراكها وفهمها.
د. سعيد الباجورى وداعا
حين هاتفتُ أستاذى الدكتور سعيد الباجورى مهنئا بالعيد لم يرد؛ هذا ليس من عادته فما من عيد إلا وبادرنى بالتهنئة والسؤال عن أخبارى لكنى عندما عاودت الاتصال ردت ابنته لتخبرني: لقد توفى والدي، ومن هول المفاجأة تلعثمتُ ولم أدرِ ماذا أقول.. لكن ذاكرتى عادت بى سنوات وسنوات عندما كنتُ فى الفرقة الثانية بكلية الآداب وجاء الدكتور سعيد ليدرّسنا اللغة الفارسية، كان شابا فى مقتبل عمره، سألنا: مَنْ درَّسكم فى العام الماضي، أجبنا أ.د. شعبان طرطور، أثنى عليه خيرا وكان هذا أول درس فى أخلاقه الفاضلة وتتوالى السنون ونبحر معه فى أشعار حافظ شيرازى وسعدى وجلال الدين الرومى حتى وصلنا إلى الفرقة الرابعة أعطانا بعض رباعيات الخيام لترجمتها وقمتُ بترجمتها شعرا، أعطيته ترجمتي، فَرح بها كثيرا، ومن رباعيات الخيام التى ترجمتها:
فَلْتسقِنى قلبى إليكِ مَشُوقُ
هاتى شفاهَكِ فالكئوس تعوقُ
وتمتَّعى فغدًا سيصنعُ عظمُنا
كأسا لغانيةٍ ليُسقَى صديقُ
الكونُ يرقصُ إذْ تمرُّ فتاتي
والخمرُ يعزفُ مُطربا أشتاتي
اليوم ألهو فى الخميلة شاديا
مَن ذا سيلهو عابثا برُفاتي؟
الكأسُ ذاك لكمْ تألَّم عاشقا
مثلى وكان أسيرَ حُبِّ فتاةِ
هذى اليدُ اللاتى تُرى محنيةً
كانت تضمُّ حبيبَها قُبُلاتِ
كمْ مرَّت الأيامُ فى عمرى سواءْ
والعمرُ حتْما سوف يعقبه انتهاءْ
الحزن لا يُجدى على يومٍ مضى
وغدًا أخبئُهُ لألهوَ ما أشاءْ
لكنَّ عُمرى قد تضاءلَ وانتهى
يا ويح أيامي، ويا تَبًّا لها
يا ربِّ ما قدمتُ خيرًا يُرتَجَى
لكنَّ جُودك ما لهُ منْ مُنْتَهى
وتوقَّفَ أمام آخر رباعيتين وظل يرددهما وقرأ ترجمتى أمام الطلاب فى المحاضرة، كان عالما فى تخصصه وبهيا فى طلعته، وأنيقا فى ملبسه وقورا فى حديثه وفصيحا فى لغته وبليغا فى حجته، تولى عمادة كلية الآداب فكان نِعم العميد المقرب من الطلاب، وكان والدا حنونا ومعلما جليلا مخلصا، يمضى الجسد ويبقى العمل الطيب والذكرى الجميلة؛ لأسرته الكريمة وتلاميذه الكرام كل العزاء وله الرحمة والمغفرة والسلام.
فى النهايات تتجلى البدايات
مللٌ ... مللْ
ستنام إن جاء المساء وأنت حيٌ
كى تقوم مع الصباح إلى العملْ ...
وتقابل الأشباح مبتسمين فى زمن الدجلْ ...
وستغمض العينين فى الطرق القبيحة،
كى تفتِّحها على وجهٍ رحلْ...
وتحس أن حياتنا لعبٌ
وأن عقولنا رمز الخبلْ ...
وستفتح التلفاز كى تجد الدماء بكل وديان الخليقة
إنه ألمٌ ...
ما عاد حقًا يُحتملْ ...
وتقابل الإخوان والأعداء، والمتجالسين على الحواف
المتهامسين إذا مضيتَ، الساكتين إذا أتيتَ
المادحين إذا حضرتَ، الناقدين إذا رحلتَ
الشامتين إذا فشلتَ، الحاقدين إذا نجحتَ
الفاشلين بكل شيءٍ غيرِ ساعات الجدلْ...
مللٌ ... مللْ
العمر يا ويلى رحلْ...
وإذا عرفت الركضَ فاركض يا فتى،
ولسوف يلحقك الأجلْ...
مللٌ....مللْ.
0 تعليق