اليمن - من المواطنة إلى التأليه.. "السيد" وإعادة تدوير الوحي

شبكة النقار 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

 

 

خاص - النقار

مثّل تحوُّلُ قائد جماعة أنصارالله عبد الملك الحوثي من "مواطن" متواضع إلى زعيمٍ "مُلهَم" ذي تفويضٍ سماوي، نموذجًا كلاسيكيًا لاستغلال الخطاب الشعبوي. ففي عام 2012، حين بدأت الجماعة تسوق لنفسها مستفيدة من الأزمات السياسية بعد (المبادرة الخليجية)، اختار "السيد" هنا أن يخيطَ لنفسه رداءً وطنيًّا بخطاب شديد المواطنة، مُعلنًا تنازلًا مفتعلًا عن أي امتيازٍ نسبي.

 لكن، كما أظهرت التجارب، فإن الشعارات لا تصمد أمام شهوة السلطة. ففي 21 سبتمبر 2014، ومع اجتياح الجماعة للعاصمة صنعاء، انقلب ميزان الخطاب: سقطت مفردة «المواطنة» من قاموس الجماعة، كما سقطت قيم «السلم» و«الشراكة». لم تعد الجماعة تقدم قائدها كممثل لفصيلهم السياسي أو فئة مسحوقة، بل ناطقًا باسم «الحق الإلهي» ووصيًا على تفسير الدين وتوزيع الولاء.

 أما الانزلاق الأخطر، فلم يتجسّد في احتكار القرار السياسي أو تهميش الخصوم فحسب، بل في ما بات يشبه تأليهًا ضمنيًا لعبدالملك الحوثي، يتجلى أوضح ما يكون في خطاب الجماعة الديني. ففي خطبة جمعة 18 فبراير الجاري أُلقيت في مسجد الكور بصنعاء، ظهر الخطيب فاضل الشرقي – أحد الوجوه في المنظومة الدعوية التابعة للجماعة – ليقول في مستهل حديثه أن قائد الجماعة محيط بعلم القرآن الكريم، لأنه عَلم الهدى في هذا الزمان. ثم يتنقل في خطبته موضحا شمولية الكتاب الكريم وأنه "اوسع من التفسير والحديث ومن الكلام مهما عبر عنه الناس، حتى النبي صلوات الله عليه لم يحط بالقرآن الكريم". هذا التصريح – الذي يمكن الرجوع إليه في حساب قناة “الإيمان” على منصة إكس – لم يكن زلة لسان، بل يبدو ترجمة صريحة لخط عقائدي يتصاعد منذ سنوات: زعيم فوق التفسير، وفوق التاريخ، وفوق حتى النبوة في مراتب الفهم.

 إن مثل هذا الطرح أسس لمرحلة سوداء تُمحى فيها الحدود بين القرار السياسي والدين، ويصبح فيها نقد الخطاب السياسي معادلة مباشرة للردة أو الخيانة. وهو نمط لا يبتعد كثيرًا عن نماذج الاستبداد العقائدي التي عرفها التاريخ الإسلامي في عصور الانحطاط، حيث غُلف الاستبداد بشرعية دينية مصطنعة.

 بمرور السنوات، تآكلت الشعارات التي سوقت من خلالها الحركة نفسها للمواطنين. فـ«الشراكة الوطنية» صارت ستارًا هشًّا لحكم فردي مطلق، والأحزاب الحليفة تحوّلت إلى واجهات جوفاء، مجرد ديكور سياسي. بل إنّ الجوع، الذي كان سببًا لتبرير صعود الجماعة، بات سياسة ممنهجة لإخضاع السكان. لم تعد المعاناة أداة مقاومة، بل أداة حكم.

 اليوم، تتململ حتى الأوساط التي هللت لدخول الجماعة إلى صنعاء، وتصف ما جرى بأنه «انقلاب على 21 سبتمبر» نفسها. هناك شعور واسع، في الداخل بأن الجماعة تحوّلت إلى كائنٍ ضخم يبرّر كل وسيلة باسم الغاية، وإن لم يتحقق لتلك الغاية أي معنى وطني أو أخلاقي.

 في النهاية، قد تكون أكثر قرارات (السيد) صدقًا هي تلك التي تخلى فيها عن لقب «المواطن». إذ إن المشروع، من البداية، لم يكن إلا نقيضًا لفكرة المواطنة: لا يقوم إلا على التمايز، ولا يستقيم إلا بإلغاء الآخرين.

بل إن بعض خطباء الجماعة باتوا يتعاملون مع النبوة كما لو أنها مرحلة يمكن تجاوزها تنظيريًا، ما دام "الهدى لهذا الزمان" قد ظهر، وتجلّى. وهذا لا يُغني عن الرسالة فقط، بل يُغني – من وجهة نظرهم – عن النبي نفسه. ولولا أن الأمر يُتلى من على منبر، لظنّه الناس تهكمًا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق